مفهوم النثر العربي (1)
صفحة 1 من اصل 1
مفهوم النثر العربي (1)
إن من يتصفح أهم كتب النقد والبلاغة العربية يفاجأ بظاهرة غريبة وهي قلة عناية النقاد القدامى بالنثر، في حين أنهم أمعنوا في بحث الشعر من جميع نواحيه تفصيلا وتدقيقا على حد الإفراط أحيانا، فقد تحدثوا عن النثر لاباعتباره فنا قائما بذاته بل تحدثوا عنه كجزء من البلاغة أو البيان حديثا يتسم بالإبهام خاليا من التخصيص أو التحديد
ولعل من مظاهر هذا الإهمال أننا لا نجد تعريفا صحيحا للنثر قد استوفى ما يشترط في كل تعريف صالح من دقة وإحاطة واستقصاء ، في حين أن الشعر قد حظي بتعريفات لا بأس بها تتسم بالضبط والإحكام، أما النثر فـما ورد في حقه من تعريفات لا تتعدى التقسيم والتصنيف، فهو باعتبار الشكل ينقسم إلى خطب ورسائل، وباعتبار اللفظ يتفرع إلى نثر مرسل ومزدوج وسجع.
من أقوال الكتّاب القدامى حول النثر
•يقول ابن وهب: (واعلم أن الشعر أبلغ البلاغة...)
البرهان في وجوه البيان،ص350.
ويقول الكاتب المفكر مسكويه: ( فكذلك النظم والنثر يشتركان في الكلام الذي هو جنس لهما، ثم ينفصل النظم عن النثر بفضل الوزن الذي به صار المنظوم منظوما. ولما كان الوزن حلية زائدة وصور فاضلة على النثر صار الشعر أفضل من النثر من جهة الوزن. فإن اعتبرت المعاني كانت المعاني مشتركة بين النظم والنثر. وليس من هذه الجهة تميز أحدهما من الآخر...)
الهوامل والشوامل، ص 275
تعليــق:
هذه النظرة الجزئية للنثر كما رأيناها في الأقوال السابقة تؤكد موقف النقاد القدامى السلبي من النثر فهي نظرة جزئية انصرفت على الشكل دون اللُب، إلى الصورة دون الحقيقة والمعنى وهي التي حالت دون التبلور التام لمفهوم النثر الفني عند القدامى.
حتى أن الكتّاب العرب من مفكرين وفلاسفة وقصّاصين ونقاد كانوا يمارسون النثر الفني دون وعي واضح دقيق لمزيّة الفن المتوفرة في كتاباتهم ودون أن يُعترف بفضلهم.
:
الجاحظوموقفه من النثر:
• يقول الجاحظ وقد نُقلت كتب الهند،وتُرجمت حكم اليونانية، وحُولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا؛ ولو حُوّلت حكمة العرب لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وحكمهم،ولبطل ذلك المعجز، وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة ، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان حتى انتهت إلينا، وكنا آخر من ورثها ونظر فيها، فقد صح أن الكتب ( أي كتب النثر) أبلغ في تقييد المآثر من الشعر.)
الحيوان، ج1، ص75
أبو حيان وموقفه من النثر:
• يقول أبو حيان : ( وأحسن الكلام ما رق لفظه ولطف معناه... وقامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم)
•ويقول أيضا: ( إذا نظر في النظم والنثر على استيعاب أحوالهما وشرائطهما .. كان أن المنظوم فيه نثر من وجه، والمنثور فيه نظم من وجه، ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا)
• أبو حيان يُعد أول من اهتدى إلى حقيقة النثر الفني وحلل مقوماته الجوهرية تحليلا يتصف ، على إيجازه، بالدقة والعمق.
كذلك بيّن أهمية كل من عنصري العقل والموسيقى في النثر الفني، ومن رأي التوحيدي أن الشعر لا يختص وحده بالموسيقى والخيال، بل هما قدر مشترك بين الشعر والنثر الفني ، والفرق بين النوعين من الكلام نسبي أما الجوهر فواحد.
الإمتاع والمؤانسة ، ج2،ص145، ص135
إحياء النثـــــر
بلغ النثر في أخريات العصر العثماني الغاية في الركاكة والضعف، فكانت عباراته سقيمة، مقيدة بقيود ثقيلة من الحلي والزخارف المصطنعة المتكلفة، لتخفي ما وراءها من معنى مرذول، وفكرة تافهة ضحلة، وكثيرا ما كانت تغلب العامية والكلمات التركية على كتابات الكتاب، فيأتي الكلام أشبه بالرموز والأحاجي.
ومن كان من الكُتّاب على قدر يسير من اللغة، نهج أسلوب المقامات في كتاباته فالتزم السجع في كل ما يصطنع من كتابة، بل منهم من كان يتلاعب بالألفاظ والتحريف ، وقد أورد الجبرتي أمثلة عديدة في كتابه ( عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، سنسوق منها نموذجين.
1- المقامة التصحيفية للشيخ عبد الله الإدكاوي،الذي أهدى منها نسخة للشيخ عبد الله التلباني فرد عليه بما نصه:(عبد الله عند الله وجيه، وحبه محتم مخيم بقلوبنا تعلو بنا سماته، سما به عمله عم له التواب والثواب،ولا حرمنا ولاء حرمنا الأبهج الأنهج...)
ونحن نرى هنا هذا الطائل من الكلمات العبثية التي تؤكد ما وصلت إليه اللغة من الضعف والركاكة.
2- قال مصطفى الدمياطي: ( حكى البديع بشير بن سعيد قال: حدثني الربيع بن رشيد قال: هاجت لي دواعي الأشواق العذرية، وعاجت بي لوا عج الأتواق الفكرية، على ورود حمى مصر المعزية البديعة؛ ذات المشاهد الحسنة والمعاهد الرفيعة؛ لأشرح بمتن حديثها الحسن صدري، وأروح بحواشي نيلها الجاري روحي وسري، وأقتبس نور مصباح الطرف من ظرفائها؛ واقتطف نور أرواح الظرف من لطفائها، وأستجلي عرائس بدائع معاني العلوم، على منصات الفكر محلاة بالمنثور والمنظوم، واستمد من حماتها السادة أسرار العناية، واسترشد بسراتها القادة أنوار الهداية...)
نلمح كلاما متكلفا مصنوعا، لا يفضي إلى غاية ولا ينبئ عن فكرة سليمة وإنما هو لإظهار البراعة في اقتناص السجعات، وإيراد المحسنات.
ومن الذين اشتهروا بالأدب في دمشق قبيل النهضة محمد خليل الدمشقي يقول في رسالة كتبها إلى صديق له بمصر:
(أهدي السلام العاطر الذي هو كنفح الروض باكره السحاب الماطر، والتحايا المتأرجة النفحات الساطعة اللمحات، الشامخة الشميم، الناشئة من خالص صميم، وأبدي الشوق الكامن وأبثه، وأسوق ركب الغرام وأحثه، إلى الحضرة التي هي مهب نسائم العرفان والتحقيق، ومصب مزن الإتقان والتدقيق. ومطلع شمس الإفادة والتحرير، ومنبع مياه البلاغة والتقرير...)
وإذا كانت لهذه العبارات قوة بعض الشيء ، إلا أننا نجد فيها تقليد وافتعال وتكلف ، والمعنى ضحلا سخيفا.
وقد نرى بعض الكتاب يجاهدون مجاهدة مريرة للتخلص من السجع وقيود البديع مثل:
عبد الرحمن الجبرتي ، ولكنه أيضا لا يستطيع التخلص من بعض العبارات الممزوجة من العربية والتركية ، فإن سلمت له بعض العبارات ، نرى البعض الآخر منها يتعثر .
من ذلك على سبيل المثال:
قال مشيدا بما قام به علي بك الكبير من منشآت:
( ومن إنشائه أيضا العمارة العظيمة التي أنشأها بشاطئ النيل ببولاق حيث دكّك الحطب تحت ربع الخرنوب، وهي عبارة عن قيسارية عظيمة ببابين يسلك منها ما يجري إلى قبلي وبالعكس، وخانا عظيما يعلوه مساكن من الجهتين وبخارجه حوانيت وشونة غلال حيث مجرى النيل ومسجد متوسط ، فحفروا أساس جميع هذه المارة حتى بلغوا الماء، ثم بنوا خنازير مثل المنارات من الأحجار والدبش والمؤن، وغاصوا بها في ذلك الخندق حتى استقرت على الأرض الصحيحة)
هذا ما وصلت إليه اللغة والكتابة في أخريات العصر العثماني وبداية العصر الحديث:
1- تهافت في العبارة.
2- ركاكة في الأسلوب.
3- استعجام في الألفاظ.
4- عامية فاشية.
5- ضحالة في المعاني.
6- قيود ثقيلة من السجع والمحسنات البديعية.
ومن هنا يتضح لنا أن الشوط الذي قطعته الكتابة منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى اليوم ، لم يكن سهلا هينا، والتخلص من العقبات في الكتابة واللغة لم يكن ميسرا .
سعيد حسونه- عدد الرسائل : 89
تاريخ التسجيل : 29/02/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى